فلسفة: تلخيص محور الإنساني بين الكثرة و الوحدة


فلسفة: تلخيص محور الإنساني بين الكثرة و الوحدة



كيف يمكن أن نفهم هذه البينية حتى نتبين ما هو إنساني في الإنسان؟ هل تحيل على التقابل أم على أنها تفيد التلازم؟ وهل أن الإنساني هو وحدة متكثرة أم كثرة موحدة؟

إن ما يشرع لطرح هذه التساؤلات هو ما آل إليه الإنساني من ضياع داخل تصورات ساذجة تختزل الإنسان في كينونة متشضية إلى شطرين الأول من طبيعة إلهية سماوية (النفس) والثاني من طبيعة أرضية حيوانية (الجسم). كما أن الجدل حول وجود أو عدم وجوده خط فاصل بين الإنساني واللاإنساني وجه آخر من الإشكال من شأنه أن يعمق هذه الحيرة المقضة. فمنذ النداء السقراطي "اعرف نفسك بنفسك" احتكم القول الفلسفي في الإنسان إلى أنطلوجيا مثالية تفضل المعقول على المحسوس والإلهي على الحيواني والميتافيزيقي على الفيزيقي فاستحال الإنسان إلى ماهية عاقلة لدى أفلاطون قديما وجوهر مفكر عند ديكارت حديثا. بحيث نكون أمام تصور للإنسان يختزل معنى الإنسانية في مجرد القطع مع الحيواني (الجسم) و التعالي عليه ، لينصب العقل أو الوعي سلطة عليا خارقة، سوف تمكن من تحقيق إنسانية الإنسان من خلال سيطرته على الطبيعة ، ويلغي كل فعالية لما هو إنساني (اللغة، المعتقدات، العادات، القوانين، القيم الأخلاقية والجمالية،..) في نحت كينونة الإنسان، بل ويعلن بكل غرور وكبرياء أنه"ينبغي على الإنسان أن يتصرف كما لو كان سيدا ومالكا للطبيعة" كما صرح ديكارت.

لكن هذا الحلم الديكارتي لم يدم طويلا، فقد كانت سرعة التحولات العلمية التي فرضتها النجاحات في العلم الفيزيائي و علم الفلك و البيولوجيا دافعا لمراجعة الصورة التقليدية للطبيعة والإنسان فلم يعد الإنسان مركزا للعالم في فضاء كوبرنيكي لا متناه أصبحت الأرض داخله مجرد كوكب ، يسبح مثل غيره حول شمس تحكم حركته .مما نزع عنها و عن الإنسان تلك الصبغة القدسية التي أصبغتها عليها الأديان، واستبدلت النظرة الأنثروبومورفية-الإحيائية (أنسنة الطبيعة) بنظرة زومورفية ( الحيوبة الطبيعية) خاصة مع أبحاث البيولوجي الإنقليزي شارل داروين أرضية لرجة فكرية مع نظرية النشوء والارتقاء ومبدأ الانتخاب الطبيعي وقانون البقاء للأصلح. فقد فرضت هذه الأبحاث البيولوجية ضرورة الانزياح عن الوحدة إلى الكثرة في تمثل الإنسان، فالإنسان لا يولد إنسانا بل يصير كذلك. يغلب عليه بعده الحيواني منذ الولادة و يتميز بأطول طفولة على الإطلاق بين جميع الكائنات الحية، وهو ما يجعل منه أرضية استثمار اجتماعي واقتصادي وسياسي وأخلاقي... ترسم ملامح إنسانيته وتتحدد هويته تجتماعيا، فلم يعد الإنسان وحدة ماهوية أو جوهرية بل بنية أو نسيجا من العلاقات المتقاطعة والمتقابلة والمتناقضة... وفي هذه البنية يضمحل الإنسان فيتراءى لنا الواقع الإنساني بعد ذلك وجودا متناغما وجميلا في السلم وقيم التسامح والطاعة و طلب الفضيلة أو وجودا شاذا وقبيحا في الرغبة في الحرب و سلوكات النقمة والعصيان و ممارسة الرذيلة. ولكن علينا ألاّ نرى في نقد المفهوم الحديث للإنسان مبحثا خاصا بالفلاسفة دون غيرهم. إنّ الإنساني قد انفجر في أفق المحدثين بشكل مذهل، بحيث أنّ الدعوة إلى مراجعة المماهاة الصورية بين "النزعة الإنسانية (humanisme)و"النزعة الكونية(universialisme)، التي أعطاها كانط صيغتها النموذجية من خلال مفهوم "الإنسان / مواطن العالم أو المواطن الكسموبوليطيقي"، قد سمع صداها في كل النقاشات الأساسية حول الإنسان، من الرومانسيين إلى نيتشه وهيدغر وفلاسفة الاختلاف والتأويلية، ومن فلسفة البيولوجيا منذ داروين والتحليل النفسي الفرويدي، إلى علم الوراثة والتيارات ما بعد الحديثة، مثل الحركة النسوية ولكن أيضا فنون وآداب الأقليات ونزعات المثاقفة وحوار الحضارات والأديان.. هذه الأمثلة تكفينا لاقتراح هذا التنبيه: إنّ الكثرة قد دخلت إلى ماهية الإنساني من اللحظة التي أخذ فيها المحدثون يمرّون بصمت وبطء من نموذج الوعي إلى نموذج اللغة. وكما كان "العقل" هو باب الوحدة في ماهية الإنسان فإنّ "اللغة" هي هذه المرة باب الكثرة لامتلاك مكانتها في فهم معاني الظاهرة الإنسانية.

لذلك يقتضي الوعي بما هو إنساني في الإنسان تخطي عتبة الإنية والانفتاح على الغيرية لتقصي طبيعة العلاقة بينهما والنظر في أوجه التواصل الممكن في ظل تعدد وتنوع الأنظمة الرمزية حتى نتبين وجه المفارقة بين انشداد الفرد إلى خصوصيته من جهة وانفتاحه على تنوع أنماط الوجود الإنساني الممكنة ونشدان الكوني من جهة أخرى.
تعليقات