.البعد التركيبي:
يصاغ كلّ نموذج حسب فاليزار في لغة صورية إلى حدّ ما. وتتكوّن كلّ لغة صورية من مجموعة عناصر أوّلية أو رموز ومن مجموعة قواعد منظّمة لهذه الرموز في علاقات قابلة لتأويل دلالي. وبشكل أدقّ يتحدّد النسق الصوري بما هو لغة صورية تقوم على مجموعة أكسيومات (مصادرات) ومجموعة قواعد استنباطية هي ما به تتحدّد المبرهنات. ويكون النسق الصوري إمّا أكسيوميا أو شبه أكسيومي، ذلك أنّ النسق الأكسيومي هو النسق الصوري الذي تكون كلّ أوّلياته ومصادراته وقواعده بيّنة الوضوح، مثال ذلك الميكانيكا الكوانطية. تبعا لذلك ترتبط مستويات صورنة النموذج بنوعية اللّغة المستعملة التي إمّا أن تكون أدبية أو رمزية أو رياضية منطقية. وبحسب اللّغة المعتمدة يكون النموذج رمزيا، كيفيا، معياريا، أو رقميا كمّيا. كما يتكوّن البعد التركيبي للنموذج من ثوابت (constants) ومتغيّرات (variables ) وثابتات (paramétres ) وعلاقات (relations ) [علاقة حدّ أو علاقة إحصائية أو علاقة سببية أو علاقة اشتراط أو علاقة تبعية...]. وعلى مستوى خاصياته التركيبية، يقتضي النموذج أن يكون متماسكا (أن لا يتضمّن مبرهنات متناقضة)، تامّا (أن لا يتضمّن قضايا لا تقبل البرهنة أو الدحض)، مستقلاّ (أن لا يتضمّن مصادرات تحتاج أن نستنبطها من مصادرات أخرى)، قطعيا (أن يتضمّن تمشّيا برهانيا يسمح بالحكم على قضيّة ما بالصواب أو الخطأ)، مشبعا (أن لا يحتاج إلى استخدام أكسيومات إضافية من خارج النسق). ويقوم النموذج في بعده التركيبي على مبدإ الثبات داخل تغيّر الإحداثيات والوحدات..البعد الدلالي
يتحدّد البعد الدلالي للنموذج، أوّلا في علاقة بالنسق الذي يمثّله وفق علاقة تفاعلية تأخذ بعين الاعتبار المسافة التي تصل بينهما بهدف جعل النموذج أكثر فأكثر ملائمة.ثانيا في علاقة بمجال صلاحيته التي تتحدّد في علاقة بالملاحظ الذي يقرّ بصلاحية النموذج وفي علاقة بفئة الأنساق التي يكون صالحا في إطارها وفي علاقة بمجال صلاحيته زمانيا ومكانيا.
ثالثا في علاقته بالواقع، "فكلّ نموذج في بعض وجوهه، يمكن أن يعدّ وسيطا بين حقل نظري يمثّل تأويلا له وحقل تجريبي يمثّل تأليفا له". وتتحدّد طبيعة النموذج بحسب نوعية العلاقة التي له بالمرجع الذي يحيل عليه والذي يعبّر عن بنيته وكيفية اشتغاله، فيكون النموذج تبعا لذلك إمّا شاملا أو جزئيا أو مغلقا أو مفتوحا.
وأخيرا في علاقة بخاصياته الدلالية التي يضبطها فاليزار في الصلاحية النظرية والصلاحية التجريبية والثراء والقابلية للدحض والمرونة والبساطة.
. البعد التداولي
يمكن تبيّن هذا البعد على المستويات التالية:أوّلا من جهة أهداف النموذج بما هو تمثيل لكيفية اشتغال نسق ما بغرض معرفته والتحكّم فيه.
ثانيا من جهة العلاقة بين منتجي النماذج ومستعمليها والفاعلين في النسق على اعتبار أنّ المعرفة التي تقود النموذج هي معرفة موجّهة نحو الفعل و"أنّ الحقيقة ذاتها لا تعدو أن تكون سوى الفعل عينه".
ثالثا من جهة تأثير النموذج في الفرد أو المجموعة على مستوى التمثّلات و التصوّرات والأفعال وتأثيره في الواقع وما يمكن أن يحتمله النموذج ذاته من تعديلات وفق ما تسمح به القيم الاجتماعية والوسائل التقنية المتاحة.
رابعا من جهة معاييره التداولية، حيث يشترط في النموذج أن يكون ذي أداء ثابت وايجابي، بسيطا، مرنا، وقابلا للتوظيف.
مثال من علم الاقتصاد
دراسة العلاقة بين الاستهلاك C والدخل R
تصاغ العلاقة على النحو التالي: C=aR+b حيث تكون a مُعامل (Coefficient) ايجابي وأصغر من واحد وحيث تكون b ثابتة(Constante)
وفق هذه الصيغة الدخل R هو الذي يحدّد الاستهلاك C، أمكن تبعا لذلك التساؤل ما الذي يحدّد الدخل؟ (مثال الأجر...)
إذا كان النموذج لا يقدّم إجابة عن هذا السؤال فذلك لاعتبار الأجر أو الوظيفة... متغيّرات خارجية أو عوامل مشوّشة
البعد الدلالي:
وهو يتحدّد تبعا لما إذا كنّا نعني بالدخل Rوبالاستهلاك C دخل الفرد أم دخل المجموعة.
إذا تعلّق الأمر بدخل الفرد نكون إزاء نموذج ميكرواقتصادي وإذا تعلّق الأمر بدخل المجموعة نكون إزاء نموذج ماكرواقتصادي.
البعد التداولي
يتحدّد ذلك في ضوء كيفية استعمالنا للنموذج بما هو نموذج وصفي أو معياري.
النمذجة من جهة الوظائف: وظائف النموذج
يمكن أن نقارب النموذج من جهته وظائفه والتي يمكن اختزالها في ست وظائف يمكن أن نجد لها حضورا في كل نموذج، الوظيفة الأولى والثانية من طبيعة تركيبية وتتعلق باللغة التي يعبر بها النموذج والتي تؤمن إمكانات الفهم والتفسير بالنسبة لمبتكر النموذج والثالثة والرابعة من طبيعة دلالية وترسم علاقاته بالعالم الواقعي على قاعدة أواليات الأمثلة والجمع أي أن ابتكار نموذج يعد بمثابة المثال المصغر للواقع دون أن يكون انعكاسا مباشرا للواقع، أمّا الوظيفتان الأخيرتان فهي من طبيعة براغماتية أو تداولية وتتصل بالإدماج الاجتماعي للنموذج الخاضع إلى مسار سياقي وتعميم المعرفة.سوف نعرض كل وظيفة من الوظائف المعلنة بالتركيز على مفهومها النواتي والإسهامات المتعلقة بفعل النمذجة والخصائص المطابقة المنتظرة من النموذج.
.الوظيفة الرمزية :
يفهم النموذج أساسا بما هو دعامة لمفهمة الظواهر في لغة دقيقة وصارمة. إذ يعرف النموذج بنيويا بما هو مجموعة من العلاقات (غالبا ما تكون احتمالية) بين عناصر. هذه العناصر ليست مجردة بشكل خالص وتحيل على نسق مادي واقعي أو افتراضي. لذلك يسمح كل نموذج بضرب من الترميز أو التمثيل الرمزي لنسق سواء كان محينا/راهنا أو خياليا أو افتراضيا، ليكون بذلك قابلا للفهم أو التأويل بلغة، متوافقة مع عناصره ومحددة لخصائصه وللعلاقات القائمة بين هذه الخصائص داخل النموذج.إنّ القيمة المنتظرة للنموذج في مستوى الوظيفة الرمزية، إنما تتحدد بقدرته التعبيرية، أي قدرته على تحقيق ضرب من التوافق بين طابعه الصوري وتأويله.
. الوظيفة القياسية:
يبدو النموذج أيضا بمثابة وسيلة للتفسير أو الفهم وصورنة الظواهر، فالنموذج يقدّم أوّلا في صورة مجموعة من الفرضيات تلخص خصائص النسق الذي تم تمثيله، ويسمح ثانيا وبشكل خاص من استنباط جملة الاستنتاجات المتولدة عنها.فكل نموذج إنما يشتغل وكأنه محرك استدلالي يسمح بترميز نتائج مجموع الفرضيات. ليكون النموذج أساسا للفهم أو التفسير الذي يأخذ بعين الاعتبار بعض الظواهر انطلاقا من مبادئ عميقة ولكنه أيضا يمكن أن يستحيل مجرد لعبة صورية بين فرضيات واستنتاجات تتعلق بعالم افتراضي.يكون لفرضيات النموذج مزية القوانين البينة والتي تسمح بالمعالجة أو التحكم اليسير في الظواهر. فهذه الفرضيات تملك القدرة على حصر الظواهر وإحصاءها بشكل شامل رغم ما تملكه من قابلية للمراجعة، كما أنّها تبنى بطريقة تكون فيها كل فرضية مستقلة وهو ما يسمح باستبدالها بفرضية أخرى خاصة في النماذج التي تقدم في صورة نسق من المصادرات. وتستنبط النتائج بطريقة صارمة من الفرضيات سواء بطريقة تحليلية (البرهنة الرياضية) أو عن طريق الاصطناع الرقمي(الحساب عن طريق الناظم الآلي)، إذ يمكن بلوغها عن طريق مسار استدلالي قادر على تناول علاقات عديدة ومركبة.
من جهة الوظيفة القياسية، فإن القيمة الأساسية للنموذج تكمن في صلابته، أي في قدرته على ربط الفرضيات بالنتائج.
. الوظيفة التجريبية:
يقدّم النموذج بما هو إطار قوي لمواجهة أفكار أو تصورات نظرية بمعطيات خبرية اصطناعية. فالنموذج ليس مجرد وسيط غائم بين نظريات خالصة غالبا ما تكون صارمة وبين أحداث نمطية ومحلية، إذ يمكنه البحث عن معادلة خبرية أكثر دقة مع المعطيات الموجودة (العفوية أو المثارة) المتعلقة بنسق واقعي. كل نموذج تبعا لذلك ييسر صلاحية صارمة لمعطياته النظرية في علاقة بمعطيات خبرية ليكون عندئذ موضوع مسار للنمذجة لا يفضي إلى نمذجة نسق ما إلا حسب بعض السمات ووفق بعض الحدود.إن المقاربة الإسقاطية التي تعنى ببيان صلاحية نموذج موجود عبر مواجهته بالمعطيات تبدو ناجعة جدا.فمن جهة يسمح النموذج بيسر من إبراز الاستتباعات القابلة للاختبار، والتي تعبر عن نفسها في شكل علاقة بسيطة بين عناصر قابلة للملاحظة، ومن جهة أخرى من اختبار صلاحيتها على أرضية المعطيات التجريبية المتوفرة. وتكون المقاربة الاستقرائية التي تهتم بإبراز الملاحظات من البنى الممكنة للنموذج،جد صلبة. فمن جهة تسمح الوسائل الإحصائية من بيان عدد غير قليل من المعطيات الخام المحددة بضوابط خبرية مكونة بذلك أحداثا أو وقائع نمطية، ومن جهة أخرى كثيرة هي الطرائق التي تسمح من إنشاء نماذج تفسيرية انطلاقا من وقائع عبر ضبط منظومات من الثابتات للعلاقات.
من وجهة نظر الوظيفة الخبرية، فإن القيمة الأساسية للنموذج إنما تكون في مصداقيته، أي في قدرته على التعبير عن البنية الدنيا للظاهرة.
ويمكن الملاحظة بأن الفروق بين النموذج والواقع تبدو كثيرة وأكثر حدة في العلوم الاجتماعية مقارنة بعلوم الطبيعة، ففي علوم الطبيعة يمكننا أن نفكر من جهة الظاهرة الأساسية والأعراض، في حين أن كل العوامل في العلوم الاجتماعية تبدو لها نفس القيمة ومؤثرة سواء كانت أساسية أو عرضية. علاوة على أن الفوارق بين النموذج والواقع في علوم الطبيعة يمكن النظر فيها ومقارنتها وحتى قياسها بأكثر يسر منها في العلوم الاجتماعية، فالتفاعلات الميكانيكية تخضع لقوانين معروفة وإن بشكل تقريبي في حين يكون تحديد الكلفة الاقتصادية للبحث عن المعادن أو للمعاملات التجارية أكثر عسرا.
. الوظيفة الاستكشافية أو الإستشرافية:
يقدم النموذج أيضا بما هو وسيط معرفي زمن ثبات المعرفة واستقرارها أو زمن تطورها وما قد تشهده من تحولات.إذ تسمح النماذج من تثبيت المعرفة القائمة في اختصاص معين في شكل وحدات بسيطة ومستقلة ومتمفصلة فيما بينها،ولكنها تلعب خاصة دور الأساس الذي يضمن تطور المعرفة في الاختصاص، بفعل دوافع خارجية أو معطيات داخلية. وبحكم وحدة لغة المعرفة ووحدة مبادئها تمثل النماذج وسيلة أساسية لبلورة المعرفة. وعلى هذا الأساس تخضع النماذج إلى ضرب من التراكم والذي يفضي إلى إثراءها عبر الزمن عن طريق عمليات إعادة القراءة أو إعادة التأويل المتعاقب، إذ لا وجود لنموذج مكتمل. من جهة تزامنية تيسر النمذجة عملية مقارنة المعارف، ومن جهة تطورية أو تعاقبية فإن النمذجة تيسر تطور المعارف. ويكون تطور النماذج قائما على ثلاثة أصناف من العمليات الصورية، مقترنة في الغالب بمتابعة تأويلية دلالية، إذ يمكن لنموذج أن يتسع مجال تطبيقه(توسيع) أو يتخذ صورة تحليلية مخصوصة (تقليص)أو أن يتلقى أساسا أعمق(تجذير).من جهة الوظيفة الاستكشافية فإن القيمة الأساسية للنموذج إنما تكمن في سعته أو خصوبته أي قدرته على إحداث أو توليد نماذج متنوعة (كما سنتبينه من خلال نموذج الذرة لاحقا).
. الوظيفة التطبيقية أو العملية:
يعد النموذج أداة فاعلة للتوقع والبرمجة في خدمة التحكم والقرار. لتحقيق ذلك يتوجب أن يترجم النموذج في شكل تجريبي وهو ما من شأنه أن يحقق القدرة على التحكم والفعل في الوضع الذي يراد السيطرة عليه، وهو ما يقتضي ارتباط النموذج بشكل أولي بوسائل فعل بغاية تغيير الوضع وبمبادئ أو قواعد تسمح بالحكم عليه. يخضع كل نموذج بشكل قصدي إلى مسار أو سيرورة ملائمة مع المحيط وبعض المشاكل التي يثيرها، ليخضع بذلك إلى سيرورة توافق مع السياق وهو ما يفضي إلى التحري بشأن وضعيات معلومة أو استكشاف وضعيات لم تختبر بعد أو حتى وضعيات قصوى لا يمكن أن نطالها، ويمكن للنموذج أن يلعب دورا "سحريا" حين يضطلع بمهمة القرينة أو الإثبات بغاية تعليل بعض التوقعات أو التعليمات أو الوصفات المقررة. وتكون التوقعات المحددة بواسطة النموذج واضحة ومحددة لأهدافها، إذ يمكن النموذج من ضبط كل الاحتمالات أو الإمكانات المستقبلية.إن مسار التوافق مع السياق إنما يهدف إلى استخلاص القيمة التقريبية للنموذج في اتجاه استخدامه لتحقيق أهداف محددة يتم ضبطها مسبقا والتوافق بشأنها، هذه التحديدات التقريبية تحمل على وسائل الفعل وعلى بنية النموذج ذاته وعلى المعايير التي تسمح بالحكم على النتائج التي تم تحقيقها، بحسب طبيعة النموذج (حدثي أو ضد ـ حدثي ): إذا كان النموذج حدثيا أو متوافقا مع الحدث [pro factuel] فإنه يسمح باستكشاف أشياء موجودة بالقوة أو كامنة ( قابلة للتحقق في سياق جديد أو مغاير) أو افتراضية(قابلة للتحقق في سياق أقصى بالتخلص من بعض الضوابط أو الضغوطات). أما إذا كان النموذج ضد- حدثي أو غير متوافق مع الحدث [contrefactuel ] فإنه يعالج إمكانات الظاهرة أكثر من واقعها بحيث يقدم إجابة أو حلولا نظرية لمشكل أو قضية نظرية.
من جهة وظيفته التطبيقية تكون الخاصية الأساسية للنموذج في إجرائيته أي قدرته على معالجة المشكل المزمع توضيحه بضرب من النفعية.
وفي هذا الإطار تكون غايات النماذج في علوم الطبيعة أكثر وضوحا منها في علوم الاجتماع، ففي علوم الطبيعة يوجد محدد/ مقرر واحد يستند إلى النموذج ليحقق هدفا واضحا، أما في علوم الاجتماع فنكون إزاء عدد كبير من أصحاب القرار يتبعون نماذج متعددة ومختلفة ويهدفون إلى تحقيق غايات مختلفة حتى لا نقول متعارضة.
.الوظيفة الخطابية
يفهم النموذج أخيرا بما هو صورة حدث يسمح بإنتاج خطاب وجيز وبنقل أمين للمعرفة،إذ يعتبر النموذج وسيلة بيداغوجية ناجعة بالنسبة للمختصين كما بالنسبة لطلبة اختصاص ما.ولكنه يعد أيضا وسيلة تواصل ناجعة مع غير المختصين سواء تعلق الأمر بوسائل الإعلام أو بوسط اجتماعي أو مهني، إذ يعد موضوع رسالة تؤمن بث الأفكار وإذاعة المعرفة، ويسمح النموذج بتحقيق تواصل ناجع،وبذلك تسهم النماذج في تحقيق ضرب من تراتبية اجتماعية للمعرفة.من جهة وظيفته الخطابية، تكون الخاصية المميزة للنموذج في نفاذه أي قدرته على أن يكون مقبولا بوصفه معرفة لا تقبل الشك.
إبستيمولوجيا النمذجة:الأسس والقيمة
يتنزل الحديث عن النموذج والنمذجة ضمن الفكر النظامي (systémique) أو النسقي، ولا يهتم النسق العام بطبيعة النموذج موضوع الدراسة سواء كانت فيزيائية أو بيولوجية أو اجتماعية، وإنما يعمل على استخراج ما يعد ثابتا أو خاصية مشتركة بين النماذج من جهة البنية أو من جهة الوظيفة.إن التساؤل عن الأساس الإبستيمولوجي للنمذجة، يفيد التساؤل من ناحية عن الدوافع التي ولدت فكرة النمذجة بما هي السمة المميزة للبحث العلمي من ناحية وعن طبيعة المعرفة العلمية منظورا إليها بما هي إفراز للنمذجة.
يبدو كما ذكرنا آنفا، أن أزمة الأسس في الرياضيات وأزمة الحتمية في الفيزياء، وما تولد عنها من أزمة اليقين العلمي وتهاوي الصورة التي ترسخت عن العلم بما هو خطاب تفسيري كلي ومطلق وتأرجح العلم بين الضرورة والمواضعة وتأرجح الحقيقة بين المطابقة والصلاحية والحديث عن أزمة المنهج التجريبي وتحديدا التراجع عن دور التجربة ومنزلتها بما هي معيار اليقين العلمي،.كما أنّ ظهور علوم أخرى أنتجتها التطورات التقنية والتكنولوجية الهائلة وخاصة على إثر الثورة الإعلامية: علم التحكم – القرار- التواصل – الذكاء الرامز- التكنولوجيا التقنية – الهندسة – التربية – البيداغوجيا- التنظيم الخ... هذه العلوم مثلت امتدادا لسلسلة اللايقين الذي أفرزته الميكانيكا المعاصرة في دراستها لظواهرها، واللايقين هنا ليس لا يقينا في مستوى النتائج فحسب بل أيضا في مستوى الانتماء أو التحدد كعلم، فصفة العلم لم تعد تصح على هذه العلوم الجديدة. عوامل حتمت ضرورة مراجعة تصورنا للعلم وللمعرفة العلمية لتكون بذلك النمذجة الحل لتجاوز الشك الذي أصبح يحيط بالعلم وبالمعرفة العلمية.
إن النظر إلى النمذجة بما هي تجاوز للتمشي المنهجي في العقلانية الكلاسيكية يعني فيما يعنيه تغير نظرتنا للمعرفة العلمية ذاتها في علاقة بالواقع أساسا، إذ تفترض النمذجة تجاوزا للعلاقة التقليدية بين العلم والواقع، وإقامة علاقة جديدة لا يمكن أن تفهم إلا على أساس تحديد منزلة المعرفة : هل هي معطاة ، موجودة بشكل سابق عن تدخلاتنا النظرية،
هل هي تفسير موضوعي للوقائع التي نتصورها على أساس علاقات قائمة بين أسباب نكتشفها[ براديغم الكون المنحوت/ المصنوع الذي صاغه نيوتن وسيطر على نظرية المعرفة طيلة قرنين من الزمن] أم أن المعرفة هي بناء نظري ، تمثيل كشفي أو قصدي للسلوكيات أو للعلاقات التي نتصورها بحسب غايات أو أهداف نبتكرها[ براديغم الكون المبني الذي بدأ أرخميدس في نحته وتواصل مع دي فينشي وبول فاليري وغاستون بشلار وجان بياجي وسيمون وإدغار موران]
هذان النموذجان الإرشاديان(البراديغمان)، الأول براديغم الاكتشاف(كشف واقع) والثاني براديغم الإنشاء(بناء تمثلات عقلانية)، يحيلان على ضربين من المعرفة: معرف/موضوع والتي تقوم على الوصف والتفسير باستخدام لغة الرموز الرياضية. أما الضرب الثاني من المعرفة فيتعلق بالزوج معرفة/ مشروع: ولعل رمز النحلة والمهندس الذي أشار إليه كارل ماركس إنما يقترح تصورا للنموذج ـ التمثيلي لمعرفة ترتبط ببراديغم المعرفة/المشروع، فنموذج الخلية يبنى في ذهن المنمذج قبل أن تكون الخلية معروفة، أو قبل أن تكون إن شئنا موضوع معرفة، هذا المثال يقدم لنا صورة المعرفة العلمية المنشأة أو المبنية والتي تفترض أن الواقع العلمي ليس معطى مادمنا لا ننشئ إلا ما ليس موجودا، فالبراديغم القائم على منطق الاكتشاف يرفض كل محاولة للإنشاء أو البناء،أمّا الابتكار والتصور فيعني البحث عما ليس موجودا وإيجاده، والبحث وإيجاد ما لا يوجد لا يحيل على براديغم معرفة موضوع ما وإنما بناء معرفة لمشروع ما.